الوثائق القومية هي ذاكرة الأمم وتاريخها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحياتي, من هنا جاء احتفال دار الوثائق القومية المصرية بمرور خمسين عاما علي إنشائها أو علي الأحري بنقل أوراقها إلي المبني الجديد إلي جوار الهيئة المصرية العامة للكتاب علي كورنيش النيل, تلك الأوراق التي تحوي كنوزا لا حصر لها من المعلومات والوثائق التي أسس لها محمد علي باشا صاحب النهضة المصرية دارا بجوار القلعة تسمي الدفترخانة المصرية في عام1828 أي منذ175 عاما لتبرز حقائق عجيبة حول هذا الحاكم غير المصري الذي بني نهضة مصر بعد أن اختاره الشعب المصري حاكما له حين دعاهم لذلك المجاهد عمر مكرم, صاحب ثورتي القاهرة الأولي والثانية ضد الاحتلال الفرنسي. فحين تذكر الحضارة بروافدها يذكر محمد علي باشا, فهو الذي بني السدود والقناطر وأنشأ المصانع وكون الجيش والأسطول, وأوفد البعثات التعليمية من أبناء مصر إلي أوروبا ليكون بذلك إمبراطورية مصرية عظيمة أضاعها أحفاده.ناقش المؤتمر العلمي للوثائق العربية مشكلات الواقع وآفاق المستقبل, منوها عن حالة التردي وسوء المعاملة التي لحقت بالوثائق التي هي تاريخ مصر والعرب, فضاع منها الكثير والكثير, واضعا توصياته التي تناشد المسئولين بإدراك ما تبقي من هذه الكنوز وإتاحتها أمام الباحثين.أسهم في فعاليات المؤتمر باحثون من البلاد العربية, فقد اتسعت فتوحات محمد علي باشا وشملت العديد من البلدان العربية, لتكون نواة الإمبراطورية التي كان يحلم بها, ومن هنا حفلت الوثائق بذكر الكثير من البلدان, ولنا في بحث د. حمدنا الله مصطفي حسن, رئيس قسم التاريخ آداب عين شمس, تحت عنوان القرن الإفريقي في أوراق دار الوثائق خلال القرن التاسع عشر, خير شاهد ودليل, حيث تناول نماذج حضارية قدمتها مصر في القرن التاسع عشر لمنطقة القرن الإفريقي, منها سجلات خاصة بمديريات السودان وسجلات حكمدارية السودان, بالإضافة إلي جريدة أركان حرب الجيش المصري, بالإضافة إلي جهود أخري في مجالات العمران, حيث إدخال المياه النقية لكل المنطقة, وهو ما لم تكن تحلم به أي قرية في إفريقيا في القرن العشرين. حيث شيدت الإدارة المصرية هناك مباني للأهالي, بل قامت ببناء الكنائس للمسيحيين الذين كانوا يفدون من الحبشة أسوة بالمسلمين الذين شيدت لهم المساجد.ونقرأ في موضوع آخر من الوثائق عن جهود ضخمة في إرساء ما يمكن تسميته بالسلام الاجتماعي, حيث لاحظت الإدارة المصرية في السودان بعض الدسائس التي كان يبثها البريطانيون في بربره من خلال إثارة الفرقة بين القبائل, فأرسلت الحكومة المصرية إلي هناك لجان صلح لإرساء قواعد السلام الاجتماعي.الجوانب التي تناولتها الأبحاث العلمية عديدة منها الخليج العربي في وثائق الخارجية المصرية, بل كانت الوثائق مصدرا لدراسة تاريخ البحر الأحمر وجدل السياسة والاقتصاد في أزمة الشام وموقف إنجلترا منها, في عهد محمد علي, وقد حفلت الوثائق بمناقشة الصراع العربي ـ الإسرائيلي, وذلك في دراسة د. زكريا أحمد سعد في جامعة الأزهر, تلك الوثائق التي تؤكد حقوقنا وتفضح سياسة إسرائيل العدوانية, بل تكشف الكثير من الحقائق التاريخية الغائبة حول الأسباب التي أدت إلي هزيمة العرب في حرب فلسطين عام.1948
وقدم د. المبروك علي الساعدي بمركز جهاد الليبي للدراسات التاريخية بحثا هو قراءة في كتاب وثائق تاريخ ليبيا الحديث من خلال الوثائق العثمانية1811-1911 المتعلقة بالعهد العثماني في ولاية طرابلس الغرب.الدكتور كارم عبدالفتاح نوفل, رئيس قسم اللغة التركية, جامعة الأزهر, قدم بحثا بعنوان وثائق طابا ونكشف من خلال البحث أن أزمة طابا الأخيرة مع إسرائيل واستردادها في إبريل1986 بعد مجهود شاق من المناورات مع السياسة الإسرائيلية التي تعمد إلي طمس الحقائق, ليست هي الأزمة الأولي, بل الثالثة لتلك المنطقة, حيث سبقتها أزمة في1892, وقد عرفت بأزمة فرمان تولي الخديوي عباس حلمي الثاني, حيث تضمن الفرمان أن تكون حدود ولاية مصر هي نفسها الحدود التي تضمنها الفرمان الصادر في1841, وهذا معناه أن تنزع من مصر مناطق العقبة والوجة والمويلح وضبا علي الجانب الشرقي من خليج العقبة, وانتهي النزاع إلي سيادة مصر علي شبه جزيرة سيناء كاملة.أما الأزمة الثانية حول طابا فقد كانت في عام1906 حين قامت قوة عثمانية باحتلالها, بالإضافة إلي أجزاء أخري من سيناء ولما لم يستجب الباب العالي العثماني للتفاهم حركت بريطانيا كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني قواتها الحربية لتصفية الوجود العثماني في طابا وما حولها, فانسحبت القوات العثمانية, وربما كانت هذه الأزمات دلائل وقرائن علي أحقية مصر بهذا الجزء من سيناء في مفاوضاتها مع إسرائيل.وينقلنا د. محمد رفعت الإمام, آداب دمنهور جامعة الإسكندرية, إلي منحي آخر آخر لأهمية الوثائق, حيث قدم بحثا بعنوان الطوائف الملية في مصر, حيث احتضنت مصر في تاريخها الحديث والمعاصر جاليات شرقية وغربية وطوائف ملية عديدة, وقد عاشوا في تناسق فريد داخل المنظومة المصرية العامة, ومنهم طوائف الأقباط والأرمن والروم والسريان والكلدان واللاتين واليهود علي اختلاف مذاهبهم.ويقدم بحث الدكتور عبداللطيف الصباغ, أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر جانبا طريفا من الوثائق, وهو الالتماسات التي كانت تقدم للحاكم, تحت عنوان الالتماس مصدر من مصادر تاريخ مصر المعاصر, وقد جمعت الوثائق161 تحت اسم محافظ عابدين التماسات كل محفظة بها أكثر من500 التماس ويعود تاريخ الالتماس إلي نهاية القرن19 الميلادي, وهو بذلك يتوافق مع ظهور طبقة الأفندية في المجتمع المصري, تظهر الالتماسات مشكلات أفراد المجتمع من انتشار الفقر والبطالة والأمراض الاجتماعية وغيرها من القضايا الحياتية التي كانت ترد إلي ديوان الخديوي فالديوان العالي السلطاني ثم الديوان الملكي.وعلي هامش الاحتفاء بمرور50 عاما علي إنشاء دار الوثائق و175 عاما علي إنشاء الدفترخانة, عرضت الدار صورا لبعض الوثائق متنوعة, منها الذي حدث في سبتمبر46, حيث فوضت وزارة الخارجية الفنان يوسف وهبي لحضور مهرجان كان بفرنسا.ورسالة من مفوضية الجمهورية السورية في عام1951 إلي وزارة الخارجية الملكية المصرية يؤكد أن اليهودي الخواجة داوود عدس, يقوم بنشاط في مساعدة الصهيونية, منوها عن ضبط البوليس المصري قبل ذلك بمخزن للأسلحة في بيت عدس بقصد نقلها إلي إسرائيل.ولأن اللغة أيضا لها استعمالات طريفة, فقد ختمت الرسالة بعبارة نقول عنها الآن سري جدا, تقول مكتوم جدا. ولأن مصر أرض الكفاح والوحدة الوطنية والنسيج الواحد نقرأ معا التلغراف الآتي: تلغرافات الديوان العالي السلطاني.عظمة مولانا السلطان: أضربنا عن تلقي الدروس احتجاجا علي قدوم لجنة ملنر ونقاطعها. طلبة مدرسة الأقباط ببورسعيد.تصدر من مكتب بورسعيد بتاريخ17 ديسمبر.1919 الدكتور محمد صابر عرب, رئيس دار الوثائق القومية يؤكد أن اهتماما كبيرا في الأيام القادمة توليه الدولة لأرشيف مصر في كل مكان, وكل الوزارات الهدف منه جمع ذلك التراث الضخم للحفاظ علي هوية البلاد ومواكبة عصر المعلومات, إلاأن الدكتور العرب, يتخوف مما لدي بعض الوزارات من وثائق مهمة لا تلقي أدني اهتمام, لكنه أشاد بدور وزارتي الدفاع والخارجية في حفظ ما لديهما من وثائق, ويطالب بقية الوزارات تسليم ما لديها لدار الوثائق حتي تقوم بفهرسته وإعادة ترميم ما تآكل, وأتلف منه حتي يمكننا الحفاظ علي تاريخ مصر وإتاحة الفرصة لدراسته أمام الباحثين من مصر وبلاد العالم, بدلا من تعرض الوثائق للإهمال والفئران في مخازن مليئة بالرطوبة والآفات.